كهنة وعلمانيون: تكامل
ام تبعية
المحامي الأستاذ إيلي شلهوب
اولاً: تعريف التعابير
سوف نقوم بتبيان المفاهيم الفكرية والفلسفية
التي اشتقت منها تعابير كلمتي العلماني والكاهن وذلك استناداً الى مصادرها في
الفكر اليوناني القديم والفكر العبري وفق مفهوم العهد القديم قبل التجسد.
ان كلمة علماني تقابلها في اليونانية كلمة Laikos
اي الفرد المنتمي الى شعب وكلمة شعب هي في اليونانية Laos.
ان مفهوم Laos
في الفكر السياسي اليوناني يعني شعب المدينة polis.
ولم يكن في بدايات هذا المفهوم فرق كبير بين الشعب والمدينة فالشعب Laos
هو الذي يعيش ضمن اسوارها بخلاف الافراد الذين يعيشون خارج المدينة. ومن يعيش ضمن
المدينة يخضع لقوانينها اي انه منظم لأنه
عضو في الجماعة المدينية له كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات التي تفرضها قوانين
المدينة وذلك بالتساوي مع باقي افراد الشعب.
وقد انتقل مفهوم العلماني الى الامبراطورية
الرومانية من اليونان ولكن اعطي مفهوماً حقوقياً اوسع بحيث اصبح العلماني هو كل
مواطن روماني حر ينتمي الى شعب الامبراوطورية الرومانية بحيث يتمتع بحقوق المواطنة
بالتساوي مع جميع المواطنين الرومانيين.
اما الكهنوت في العقد القديم Kohanim
فكان يشكل طبقة خاصة هي طبقة اللاويين المتحدرة من هارون وذريته ومحصورة في هذه
الذرية وتنتقل ضمنها. وكان الكاهن مكرس لخدمة الهيكل واقامة الشعائر فيه. ونرى
ايضاً مفهوم الكهانة في الحضارة الكنعانية وفي مخطوطات اوغاريت وربما اتى مفهوم الKahana
هذا من الفكر العبري وقد يصح العكس.
كان الكهنة في الحضارات السامية يشكلون طبقة
خاصة ومميزة عن عامة الشعب مكرسة لخدمة القدسات وتخضع لقوانين خاصة تتعلق بالنظافة
والطهارة. كما انهم اختصوا ايضاً بالتعليم واقامة القضاء.
ونلاحظ مما ورد ان هناك تمييزاً تاماً طبقياً
ووظيفياً بين عامة الناس (الشعب) والكهنة في الفكر السامي بخلاف المساواة امام
القانون المديني الواحد في الفكر السياسي اليوناني.
ثانياً: الكنيسة في القرون الاولى
بالعودة الى الكتاب المقدس لا نرى اثراً
لاهتمام السيد المسيح بإقامة كهنوت جديد يحل محل الكهنوت الذي يخدم الهيكل بحيث
يمكن القول ان مثل هذا الامر لم يكن يعنيه.
لقد انصب تعليم السيد اساساً وبشكل جذري على
البشارة بملكوت الله ولم يعر اي اهتمام لوضع اسس لتراتبية او تنظيم اجتماعي او
بشري تراتبي يهدف الى النمو والتوسع والاستمرار مع الزمن بشكل مؤسساتي، ففي الزمن
الرسولي ومجتمع الكنيسة الاولى لم نجد مواقع مكرسة للكهنة وقد وصف الرسول بولس اول
مجموعة افخارستية دون الاشارة الى كهنة يقومون بالتقديس او التكريس. ونرى في اعمال
الرسل ان الرسل كانوا يقيمون مدبرين في الكنائس التي كانوا يؤسسونها دون ان
يتصرفوا انفسهم كرؤساء لهذه الكنائس او الجماعات.
ولم تظهر الحاجة الى التكريس باختيار اناس
يتفرغون لخدمة الاسرار والجماعة الا بعد ان توسعت الكنيسة وانتشرت في بدايات القرن
الثالث فأقيم الكهنة لظهور الحاجة لهم لخدمة الكنيسة. وهكذا برز الكهنوت كحاجة
لخدمة شعب الله.
فبالرغم من الاستمرارية بين العهدين القديم
والجديد الا ان البنية التقديسية بينهما مختلفة. ففي العهد القديم نرى قيام مؤسسة
تراتبية في العبادة والطقوس وبعد ذلك يأتي الله ليقيم فيها "هناك اجتمع ببني
اسرائيس ويقدس ذلك المكان بمجدي واقدس خيمة الموعد والمذبح، وهارون وبنوه واقدسهم
ليكونوا لي كهنة واسكن في وسط بني اسرائيل واكون لهم الهاً" تكوين 29: 44-45.
اما في العهد الجديد فإن الشريعة والمؤسسة
والتراتبية ليست سوى ظلٍ للحقائق والخيرات القادمة. كما جاء في الرسالة الى
العبرانيين ولما كانت الشريعة تشتمل على ظل الخيرات المستقبلية لا على تجسيد
الحقائق فهي عاجزة ابد "الدهور" عبرانيين 1:10.
وبالتالي فإن السيد اقام الحقيقة مكان الظل
فهو ابطل العبادة الاولى ليقيم عبادة جديدة وفق مشيئة الآب:
""ثم قال ها انذا آت لاعمل بمشيئتك. فقد ابطل العبادة الاولى
ليقيم العبادة الاخرى" عبرانيين 9:10.
وهكذا فإن العهد الجديد قلب ترتيب الاشياء
والامور ففي مركز التاريخ يقيم النور الكلي المتجسد. فالتجسد هو المحور وباقي
الاشياء المؤسساتية ليست سوى الظل فالكنيسة بنيت حول محورها بعد تجسده خلافاً لما
كان الوضع عليه في العهد القديم. فشعب الله لم يجتمع في خيمة الموعد ولا على الجبل
او في اورشليم ولكن في المسيح.
"صدقيني ايتها المرأة تأتي ساعة فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا
في اورشليم. انتم تعبدون ما لا تعلمون ونحن نعبد ما نعلم." يوحنا 21:4.
فالكنيسة في العهد الجديد هي جسد المسيح وهي
ملىء الذي يملأ كل شيء بملئه ومن هذا الملىء تتشعب الفروع في الزمان والمكان،
فالسيد هو الذي يوحد الجسد كله ويربط الاجزاء كلها لتنمى بالمحبة.
"فإن به احكام الجسد كله والتحامه، والفضل لجميع الاوصال التي تقوم
بحاجته ليتابع نحوه بالعمل "الملائم لكل من الاجزاء ويبني نفسه
بالمحبة." افسس 16:4.
وعليه فإن الكهنوت والمؤمنون والمقدسات
والعقائد والقوانين والكتب المقدسة والعبادات وجميع المظاهر والاشكال المؤسساتية
تثبت تدريجياً لتكون جسد المسيح المنظور ولا يتم ذلك الا بالحضور الدائم للسيد في
وسطها.
ثالثاً: المؤمنون مكرسون دون تمييز الا بالخدمة
يبدو من ظاهر الامور ان التكريس مختص بالكهنة
فهم المكرسون دون باقي المؤمنين. والواقع ان هذا خطأ شائع لأن التكريس يأتي من منح
مواهب الروح القدس من اجل اتمام عملنا كمسيحيين واعضاء في الكنيسة جسد المسيح.
فالعلماني بالمفهوم الارثوذكسي يشمل جميع اعضاء الكنيسة كهنة وعلمانيين فالكاهن
اذا هو علماني قبل ان يكون كاهناً افرز للخدمة. اذا كل من منح موهبة الروح القدس
هو عضو فعال في الكنيسة فإننا بالمعمودية تتجدد طبيعتنا وبسر الميرون الذي يلي
المعمودية مباشرة نعطى القوة والنعمة كي نبني معاً جسد المسيح ونكون مشاركين في
حياة الكنيسة. وعند اقامة هذا السر نصلي كي يصبح المعتمد الجديد:
"عضواً مكرماً في الكنيسة، اناءً مقدساً، ابناً للنور وارثاً لملكوت
الله حتى اذا حفظ موهبة روحك "القدوس وانمى وديعة النعمة نال جائزة الدعوة العلوية
وانضم الى عدد الابكار المكتوبين في "السماء."
كانت المسحة في العهد القديم مخصصة لتكريس
الملوك والكهنة والانبياء من بين جميع الشعب وقد جعل العهد الجديد لكل مقتبل
للمعمودية ان يكرس بسر المسحة فيتساوى جميع ابناء الكنيسة دون تفريق بين علماني
وكاهن وملك او عامي فيصبح للجميع معرفة كل شيء.
"اما انتم فقد قبلتم المسحة من القدوس وتعرفون جميعاً." يوحنا
الاولى 20:2.
وبذلك يصبح المؤمنون كلهم مشاركون ليسوع في
الكهنوت الملوكي اكانوا كهنة ام علمانيين ام ملوكاً ام رؤساء.
ان سر الكهنوت لا يمنح الكاهن مرتبة اعلى من
مرتبة باقي اعضاء جسد المسيح او قدرة ذاتية اكبر من قدرات الآخرين فالمسيح لم ينقل
قدراته الخاصة للرسل الامر الذي يعني غيابه وحلولهم محله بل بالعكس فأيقونة
العنصرة تنطق عكس ذلك حيث ان السيد هو في وسطهم وهو رأسهم وهو مصدر النعم. وهذا ما
تعكسه الصلاة التي تتلى عند وضع الايادي لرسامة الاسقف.
"ليس بوضع يدي ولكن بموهبة عطاياك تعطى النعمة."
فوضع الايدي اساسي ولكن لنقل النعمة الآتية من المصدر الالهي.
فالامر لا يتعلق اذا بمواهب الرسل او بقدرة المجامع انما بحضور المخلص مصدر
النعم والمواهب.
ان كلام السيد في الاناجيل الاربعة والكأس
الواحدة في الذبيحة الافخارستية تنقل قدرات السيد الى كامل اعضاء الجسم الواحد
بالرغم من تنوع مهمات اعضاء هذا الجسم ووظائفهم ومواهبهم والعطايا المعطاة لهم.
رابعاً: الكهنوت المكرس والكهنوت الملوكي:
من الاخطاء الشائعة اعتبار الخدمة الليتورجية
مقامة من الكاهن والمؤمنون يحضرون. فالأمر ليس كذلك فنحن نذهب الى القداس للمشاركة
وليس لمجرد الحضور فبدون مشاركتنا في الخدمة لا تتم الخدمة فالليتورجيا هي عمل
مشاركة واتحاد بين جميع اعضاء الكنيسة فالصلوات كلها تستعمل صيغة الجمع "نقدم،
نصلي، نشكر، نعبد، نتقبل الخ..." فالمؤمنون العلمانيون يشاركون مباشرة في
الخدمة عندما يرددون كلمة آمين لتصدق كل عطية وكل طلبة فهذه الآمين هي تعبير عن
القبول والمشاركة والموافقة.
وبالتالي فإن الكاهن في الكنيسة الاورثوذكسية
ليس مميزاً عن العلمانيين او ذو مرتبة اعلى منهم او هو مضاد لهم (كما هو الامر في
التعريف عنه في القانون الكنسي للكنيسة الغربية حيث يعرف بأنه المسيحي غير المكرس
او كما يعرفه معجم لاروس بأنه خلاف (الكاهن).
ان التفريق بين العلمانيين والكهنة هو تفريق
وظيفي فقط مبني على توزيع المواهب والخدمة.
فالاول هو كهنوت وظيفي والثاني ملوكي والجميع
كهنة للمسيح اي جسم واحد لكاهن واحد هو السيد ففي العهد الجديد الغي الكهنوت اللاوي
المبني على التكريس الخاص اذ اصبحنا جميعاً مكرسين بالنعمة المعطاة لنا في الاسرار
كما سبق وذكرنا ومميزين بالخدمة والموهبة الخاصة بقدر ما نعمل على تنمية هذه الموهبة.
وليس اشد دلالة على تساوي اعضاء الجسد الواحد
امام الكاهن الاعظم سوى ما نراه اثناء رتبة سيامة الاسقف الجديد. ففي قمة الاحتفال
بهذه الرتبة يأخذ اقدم الاساقفة سيامة مكان الشماس ويقدم الطلبات ويأخذ باقي
الاساقفة مكان الشعب بالجواب والترتيل. وهكذا وفي اعلى مراتب احتفالية في
الليتورجيا يعود الاساقفة الى صفوف الشعب تعبيراً عن ان الجميع هو قبل كل شيء جزء
من الكهنوت الملوكي، اعضاء متساوين في جسد المسيح وبعد ذلك يقتبل المكرس الجديد
النعم الاسقفية لتأدية خدمة مواهبية محددة داخل الجسم الواحد.
المسيح هو الكاهن الاوحد الممسوح والآخرون هم
كهنة بالمشاركة اي بقدر ما يشاركون السيد في كهنوته وبما اعطوا من نعمة لبلوغ هذه
المشاركة وبتفعيلهم لهذه النعمة وهم اعطوا هذه النعمة بوضع اليد وبالتواتر.
وهكذا نرى ان المفهوم الاورثوذكسي للعلمانيين
والكهنة يقع خارج سياق المساواة بينهما بمعنى رفض التراتبية في الخدمة وفي الوقت
ذاته يبتعهد عن مفهوم تجزئة الجسد الواحد الى نصفين.
فالفهم الاورثوذكسي لهذه العلاقة يقوم على
مشاركة الجميع في القدسات ولكن بأسلوبين وبكهنوتين فالاثنان مثبتان في كهنوتهما من
قبل الله وهذا المصدر الالهي هو الذي يضع كلا منهما في مكانه المعد له في التدبير
الخلاصي خارج سياق العالم والمجتمع بتكويناته البشرية انما من اجل خدمة العالم
وخلاصه بالبشارة.
لقد ورثنا مفهوماً خاطئاً يجعل من الكهنوت
مضاداً للرعايا وهذا المفهوم دخل الكنيسة الغربية بفرعها الكاتوليكي منذ القرن
الحادي عشر وورثته البروتستانية بعد ذلك.
وقد نشأ من كون الالكيروس كانوا في ذلك
الزمان هو الطبقة المثقفة والمعلمة والعلمانيون جهلة واميون بحيث اصبحت كلمة
علماني مرادفة لكلمة جاهل Lai
او امي وبالتالي لا يؤتمن على المقدسات.
الكنيسة الغربية تحاول منذ المجمع الفاتيكاني
الثاني وحتى قبله العودة عن هذا التضاد
والثنائية التراتبية والمؤسف ان كنيستنا في الزمن الحاضر تسعى الى مثل هذا
الامر الذي لم تعرفه في ممارستها ولاهوتها وتاريخها بالرغم من ان تعليم بعض
اساقفتها يقول عكس ذلك حيث ان من يقرأهم يعجب من ممارساتهم الانفصامية.
ان العودة الى الايمان المتكامل لمفهوم
الكهنوت بفرعيه المكرس والملوكي دون اختلاط او انفصال وبعيداً عن كل مواجهة هو ما
يقتضي عيشه ففي تنوع المواهب في الخدمة يتحقق جسد المسيح الواحد.
في 26 تموز 2012
No comments:
Post a Comment