طاعة عبيد أو علاقة أحرار
مداخلة حول كتاب المواهب في الكنيسة
للقاضي نسيب ايليا
اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسي
كنيسة القديس جاورجيوس – برمانا
"عبدُك أنا يا ربُّ، عبدُك وابن أمتِك"
قرأت كتاب "المواهب في الكنيسة" لمجموعة من
المؤلفين، أكثرهم أخوة وأصدقاء، جُمعت من مقالات جريئة نُشرت سابقاً في مجلَّة
النور، وكان لي سابقا شرف الإطلاع والاستمتاع بها وأحيانا شعور مندفعٌ بسببها الى
شيء من الثورة. وإنَّني، بإذنكم وبعد مداخلة البروفسور جهشان القيِّمة، لن أدخل في
دراسة أكاديميَّة للمؤلَّف المذكور، على الرَّغم من أنه يستأهل الدراسة
الأكاديميَّة النقديّة إن لناحية مضمون كلًّ من الأبحاث التي يتضمَّنها او لناحية
أسلوب كلٍّ من المؤلِّفين، بل سأكتفي، من خلال العناوين التالية أن أنحصر
بالموضوع: طاعة عبيد أو علاقة أحرار. وبتبسيط أكثر: هل ثمَّة في الكنيسة عبيدٌ؟
يُسمّي الربُّ من يدعوه الى المساهمة في تحقيق
قصده"عبدي" وانه تتميماً لهذا القصد ارسل الله ابنه الوحيد الحبيبle monogène والذي بينه وبين الله وحدة كاملة في المشيئة
والعمل يفتدي به أحباءه. وعليه فإنَّ اسم "عبد الربِّ"، تاسيساً على
الكتاب المقدَّس، يُعتبر من قبيل لقب الشرف C’est un titre d’honneur الذي يمنحه الإله الحبيب لأدعيائه .
في الكتاب المقدَّس أُعطي لقب العبد للأنبياء الذين
يقومون بتثبيت رسالة العهد "عبيدي الأنبياء" يقول الربُّ في العهد القديم،
وهم لإشراكهم في قصده، يطلب منهم أن يكونوا أمناء على الخدمة التي ينتظرها منهم "يا ذرِّية ابراهيم، يا بني يعقوب
مختاريه... هو الربُّ الهنا في كلِّ الأرض احكامه..."(مز105: 6) ويطالبهم بالإرتقاء من عبيد أرقاء الى عبيد
للربّ.
يأخذ يسوع على عاتقه رسالة "العبد" : فهو
المعلِّم الوديع والمتواضع القلب الذي يبشِّر المساكين بالخلاص وفي وسط التلاميذ "يَخدُمُ
ولا يُخدَم" على الرَّغم من انَّه ربٌّ ومعلِّم، ويذهب الى آخر متطلِّبات
المحبَّة اللتي ارساها في انجيله، مفدياً بنفسه الخطأة الذين أنا أوَّلهم.
اتخذ يسوع صفة العبد قبل الموت على الصليب ليظهر الطاعة
لأبيه (فيليبي 2: 5) ليحملنا الى أن نكون أبناء الله الساعين الى السلام (متى 5:
9). نحن بالإيمان بيسوع المسيح قد نلنا نعمة التبنّي (غلاطية 4: 5-7) فبتنا معه
شركاء في ميراث الملكوت.
أعطى الله البشر أن يكونوا أبناءَه من خلال يسوع المسيح:
نراه لدى متى يطلق عليهم صفة البنين فكان يسوع الإبن البكر الذي يُشرك اخوته في الميراث
الأبوي. فمنذ الفصح ندرك متيقِّنين أنَّنا محبوبون بالمحبَّة عينها التي يغمر الله
ابنه الوحيد، فلسنا بعد عبيداً بل أبناء وورثة الملكوت.
الواقع أنَّ الكنيسة كتجمُّع بشريٍّ متحرِّك، هي خزان
مواهب إن لم تُعطَ مكانها فإنَّها لا ريب ستنضب أو في أفضل الأحوال ستغور في الأرض
إمَّا لتذوب في جوفها وتندثر وإمَّا لتنفجر في أرض غريبة.
الحقيقة إنَّ عدم إفساح المجال أمام المواهب في الكنيسة
لتتقتَّق وتضيء، على أنَّه "لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال"، هو من
قبيل فعل القتل المقصود إن لم يكن المتعمَّد، إذا جاز لي استعمال التعبير الجزائي.
ذلك إنَّ قطع المجال أمام تفتُّق المواهب الممنوحة لنا من العليِّ إنَّما هو إزهاق
متعمَّد للروح.
لكن الفعل الجرميّ يكبر إذا فُسح المجال أمام تلك
المواهب ضمن قواعد صارمة وجامدة تُحدِّد أُطر وإمكانيَّة المناقشة وفي إطار الطاعة
العمياء.
تسرَّبَت في الأيام الأخيرة في أوساطنا الأنطاكيَّة،
فكرةٌ مفادُها إنَّه يقتضي طاعة الأسقف طاعةً عمياء بحيث لا مكان لمناقشته في أيٍّ
من أقواله أو أعماله بحجَّة انَّه المعلِّم وهو من خلال اسقفيَّته قد ورث المعلِّم
الحبيب. علماً إنَّ المعلِّم الفادي كان أظهر نفسه معلِّماً بتواضعه ومحبته التي
بثَّها لنا في أعماله التي بيَّنها لنا في الكتاب العزيز.
في الوقت الذي تدأب فيه روما، منذ المجمع الفاتيكاني
الثاني، على التحرُّر من مبادئ سكولاستيكيّة عاشت قروناً عليها، فعمدت الى إشراك
أعضائها جميعهم، إكليريكيين وعلمانيين في العمل البشاري والرعائي، فأسقطت فكرة
أنَّ ثمَّة علمانيين، laikos بالمفهوم القديم، أي عمومٌ لا
يفقهون من المعرفة والعلم شيئاً لمصلحة فكرة أنَّ للجميع وجوداً وأهميَّة في العمل البشاري وتحقيق قصد
الرب، يذهب بعض من أئمَّتنا، خلافاً للتقليد الآبائي، الى نوع من الطبقيَّة في
الكنيسة (على أنَّ الكنيسة كنيستان: واحدة
معلِّمة وأخرى متعلِّمة وهذه الأخيره ستبقى متعلمة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا)
ويُطلَب من المؤمنين طاعةً قد تلامس أحياناً طاعة العبيد أمام مواليهم ... الطاعة
العمياء مثالٌ للعبوديَّة، وليس لدى الربِّ عبيد... "لست أدعوكم بعد
عبيداً" يقول لنا في إنجيله.
ليس المعلِّم
والإمام وحده مسؤولاً أمام الروح القدس... إنَّ كل من اعتمد على اسم ربنا يسوع
المسيح واصطبغ بصبغته، وَضَعَ يدَه على المحراث وبات مسؤولاً أمام الروح القدس.
المواهب التي منحت للرعاة في الكنيسة من خلال سرِّ الكهنوت المقدَّس هي في أن
يكونوا مدبِّرين للكنيسة بنعمة الروح القدس ليذهبوا في كلِّ الأرض ويُعلنوا البشارة الى الناس أجمعين، فيوصوا
بالإيمان ويعلِّموه بنعمة الإنجيل ويسهروا على وحدة الكنيسة برصانة ورزانة وقناعة
وتهذيب، بحيث لا يأتِ على الأسقف او الكاهن عيبٌ أو لومٌ على أيِّ تصرُّف يأتيه قد
يؤثِّر سلباً بخاصَّة في نفوس القطيع الذي لمَّا يزل ضعيفاً في الإيمان وغير حصين.
السلطة في الكنيسة هي ليسوع المسيح وحده (افسس 1: 22)
الطاعة في الكنيسة أمرٌ في غاية الأهميَّة. هي أولاً
وأساساً طاعة رضائيَّة... أنت تقبل بكلِّ حريَّة وحبّ أن تطيع أإمَّتك. إن كان
رضاك معيوباً فكلُ وجودك في الكنيسة باطلٌ ولست بعد إبناً وارثاً للملكوت. الطاعة
التي يطلبها الربُّ من المؤمنين هي طاعة مستنيرة، طاعة الأبناء للآباء... طاعة
بموجبات متبادلة: تفانٍ وحبّ حتى الموت من أجل الآخر. وحدها الطاعة المفروضة في
الأسرار غير قابلة للنقاش. عندما يتعدَّى الأمر ألأسرار فإنَّ أيَّ ضعف أو وهن،
سواءً في الفرد أو الجماعة، لا يمكن غلاَّ أن يكون محلَّ مناقشة للتصحيح ( بحبٍّ
وعاطفة دون انتقام).
الأحرار والمحبّون والمحبوبون مسؤولون بعضهم عن بعض:
الأسقف مسؤول عنك بالقدر عينه الذي انت مسؤول عنه والكاهن أيضاً... أنت مسؤول عن
ابيك بالقدر عينه الذي هو مسؤول عنك. إن انت تترك اباك في أخطائه ولم تصلحه، فإنك
تزيد في أخطائه... المشكلة انك تترك اباك في الخطأ، الذي قد يكون أحياناً غير
مقصود، بحجَّة انه ابوك وله عليك واجب الطاعة. لأبيك عليك واجب الحبِّ والإحترام
لا الإستعباد. إن كان بينك وبين أبيك حبٌّ واحترام، تسقط العبوديَّة. أنت مربوطٌ
بأبيك وكاهنك وأسقفك بمحبوبيَّة المذبوح لأجلنا على الصليب. نحن، في الكنيسة،
شركاء في جسد الربِّ... شراكتنا مستمدَّة من الدَّم المهراق على الصليب والذي
جُعلنا به أبناء وورثة للملكوت.
العبد لا يرث لأن ليس له كيان... فكيف تكون ابناً إن أنت
فاقد الكيان!
الطاعة العمياء عبوديَّة، والتملُّق في الطاعة عبوديَّة.
هي عبوديَّة الكذب لأن بينك وبين الذي تتملَّق له علاقة تكاذب متبادل. إنَّك، في
ثنائك له وتسميعه ما هو راغبٌ في سماعه، تزيد في غيِّه، في حين انَك تعمد الى
انتقاده حتى التجريح في غيابه... العبد وحده يتملَّق سيِّده ليربح ودَّه فيخفِّف
من وطأة عنفه عليه. وعليه، فلا وجه للقبول بإذعان لأيِّ تعليم أو تصرُّف مخالف
للتقليد الأبائيّ والممارسة الكنسيَّة الصحيحة. وإنَّ أيَّ خلل قد يأتي، حتى من
الرؤساء والأئمة، قد يكون مدمِّراً لأعمدة الكنيسة ومهدِّماً لجسد الربِّ وصالباً
له...
انَّك إن لم تسعَ بقوَّة ومحبَّة، دون تجريح أو إيذاء
أوافتراء، الى التصحيح والإصلاح، فإنَّك لا ريب شريك في هدم هيكل الربّ...
إن لم تكن حراً ومستنيراً، فأيّ طاعة لغير الله
عبوديَّة... والسلام عليكم
في 26 تموز 2012
No comments:
Post a Comment