Tuesday, February 21, 2012

مجالس الرعايا والمُشاركة: منطلقات وآفاق

"أمـّا أنتـم، فجسـد المسيـح وأعضـاؤه أفـرداً"

مقدّمة تمهيديّة
مشاركة المؤمنين في حياة كنيستهم هبة كبرى من هبات الروح القدس، مصدر الوحدة والتنوّع في الكنيسة، جسد المسيح. وهذه المشاركة، التي كلّنا مدعوّون إلى أن نلتزمها بفرح ومسؤوليّة، إنّما تتحقّق عبر حضور فاعل في حياة الجماعة التي يشكّل كلٌّ منّا، في خدمته ومواهبه، كياناً واحداً متنوّعاً ومتكاملاً معها.
لا يعوزنا التأكيد أنّ ثمّة خللاً كبيراً في مشاركة المؤمنين في حياة الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة. وهذا أثّر، ويؤثّر كثيراً، في دورهم وحضورهم الشهاديّ، في مرحلة تاريخيّة غاية في الدقّة والخطورة، لا سيّما بسبب ما يصيب مدانا المشرقيّ من أحداث كبرى، وما ينشأ عنها من أزمات ترافقها كالتهجير والهجرة والنزوح، والترك إلى كنائس أخرى، ومشاكل أخرى عديدة تتحدّى محبّي يسوع وكنيسته، وتستدعي تضافراً وتكتّلاً ورؤًى يتشاركون فيها، في سعي مسؤول إلى إبراز وجه كنسيّتهم وتحقيق أهدافها وتكريس قيمها الإنجيليّة.

 ولا نقول شيئًا خارج المألوف إن رأينا أنّ هذا التحدّي، وما يستدعيه، يفترض أن يتشارك المؤمنون، كلّ المؤمنين، في مواجهته وتداعيّاته، بفاعليّة كلّيّة، وفق آليّات، ترضي الله، تجمعهم. وإن قلنا المؤمنين كلّهم، فنشير، طبعًا، إلى التباين الكبير الذي يضربنا، اليوم، حول النظرة إلى حياة الكنيسة وشركتها. فالثابت أنّ ثمّة بيننا من يحصر مشاركة العلمانيّين في حياة كنيستهم بحضورهم في الحياة الليتورجيّة والطقسيّة، فيما يترك للكهنة، حصرًا أيضًا، تعاطي الإدارة والتخطيط وحتّى التعليم.وإلى هؤلاء، ثمّة، أيضًا بيننا، من يفتح المشاركة على أفاق تعبّر عن حيويّة الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة، وتاليًا من يدعو إلى التحرّر من كل الموروثات والممارسات التي أدّت إلى إحداث مفاهيم وتصنيفات حول المشاركة، تصطدم، في أحيان كثيرة، بهويّة الكنيسة وتعاليمها وتعليمها حول مفهوم المشاركة عينه.

هذا الواقع المتباين هو الذي دفع إلى إقرار نظام المجالس في الكرسيّ الأنطاكيّ العام الـ1972 بغية محاولة إعادة الأمور إلى نصابها التراثيّ. وعن هذه المحاولة كتب المطران جورج (خضر) في مجلّة النور:
"في بركات الرؤى، حاولنا ما لا يجرح موقفاً من مواقف العقيدة فلا تطغى على الكنيسة علمنة دنيويّة دخيلة، ولا سلطويّة إكليريكيّة كانت هي دخيلة أيضاً. وكان المهمّ أن نؤسّس التنظيم على قواعد الإيمان، لنهرب من هواجس النفس إذا أمرت بالسوء من الفئويّة الظالمة ومن أخطاء تراكمت جيلاً فجيلاً. فإذا إنحرفنا، لسوء تصرف الرؤساء أو لعلمنة الأذهان، فلا نقلبنّ المفاهيم، ولا ندمّر القواعد ولكن لنعود إلى الأصول. ففي الكنيسة، كما في غير مجال، ما بني على الفساد فاسد. نحن تراثنا يمجّ الفئويّة العلمانيّة، ويكره المواجهة المتحجّرة العدوانيّة بين إكليروس وشعب".
هذا الوئام بين الراعي والرعيّة وصفه في القرن الثالث القدّيس قبريانوس القرطاجيّ هكذا: "مذ تسلّمت وظيفتي الأسقفيّة، كان قراري الرئيس ألاّ أقوم بشيء من نفسي بغير مشورتكم وموافقة الكنيسة"، صاحب هذا القول يعرف أنّ الأسقف "يمثّل الإله القدير"، كما قال كتاب قديم، ولكنّه يعرف، أيضاً، أنّ الأسقف، في الكنيسة، يلتقط همسات الروح من إخوة له علمانيّين أحبّة. وإذا تمرسّنا في المحّبة، نعطيها ونعطاها، نكون قد قطعنا شوطاً عظيماً من القانون إلى النعمة.

القسـم الأوّل:
1-مشاركـة المؤمنيـن فـي حيـاة الكنيسـة، بحسـب التعليـم
 على أنّ مشاركة المؤمنين جميعاً، كهنةً وعلمانيّين، في الكنيسة الأرثوذكسيّة أمر واضح جليّاً إن في عقيدتها أو قوانينها، غير أنّ وضوحه لم يكن ظاهراً في واقع حياتها، بل كان يعتوره، دائماً، انحراف مضنٍ . فالعلمانيّون كثيراً ما هُمّشوا. وهذه ظاهرة عامّة في معظم كنائسنا، لدرجة أنّ اللجنة التحضيريّة للمجمع الأرثوذكسيّ المقدّس الكبير، الذي كان يحضّر لانعقاده في النصف الأوّل من سبعينيّات القرن المنصرم، قد أعدّت ستّ وثائق لمناقشتها فيه، من ضمنها وثيقة ثانية وردت تحت عنوان "مشاركة أوسع للمؤمنين في عبادات الكنيسة وحياتها". وقد تمّ نشر هذه الوثائق، بهدف إثارة ردود فعل محتملة، عبر نشـرةEPISKEPSIS الصادرة عن البطريركيّة المسكونيّة في جنيف العدد 41 .
ونورد، هنا، بعض ما ورد في الوثيقة المذكورة:
"تعترف اللجنة بـ"أنّ التعليم العقائديّ والشرعيّ لكنيستنا الأرثوذكسيّة المقدسّة واضح تماماً. العلمانيّون مع الإكليروس يؤلّفون جسد المسيح (رومية 12: 5؛ 1كورنثوس 12: 27؛ أفسس 5: 30)، شعب الله (متّى 1: 21، 2: 6؛ عبرانيّين 10: 20 و11: 25؛ رؤيا 18: 4 و21: 3)، الكهنوت الملوكيّ (1بطرس 2: 9). في الكنيسة المنظورة، أقيم رعاة وخراف (أعمال 20: 28 و1بطرس 5: 2؛ أفسس 1: 12).
الكهنة والعلمانيّون يؤلّفون جسد المسيح غير المنقسم، الكنيسة الواحدة وغير المنقسمة هي الكلّ، كهنة وعلمانيّون يشتركون في سرّ المعموديّة الذي، عبره، يرتبطون بالجسد الواحد نفسه، الكنيسة، يشتركون في سرّ الإفخارستيّا في كلّ نعم الروح القدس المعطاة بالأسرار أو بطرائق أخرى. في الكنيسة، يتميّز الكهنة عن العلمانيّين بالكهنوت المقدّس.
إذاً، مسألة مشاركة العلمانيّين في حياة الكنيسة، محلولة بوضوح في محتواها العقائديّ والشرعيّ.... ونعتقد، تماماً، أنّه لم توجد، مطلقاً، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، ولا يوجد، الآن، حركات علمانيّة عفويّة هدفها الحصول على حقوق وواجبات أخرى في الكنيسة تختلف عمّا كان للعلمانيّين منذ تأسيس الكنيسة. ذلك بأنّهم شاركوا، دائماً، بفعاليّة، في خدمة الكنيسة، في عباداتها وإدارتها ورعويّتها، وفي عملها التعليميّ الدينيّ، وذلك وفقاً للحقوق والواجبات المخصّصة لهم بموجب التقليد المقدّس والقوانين المقدّسة. فواجبات العلمانيّين الرئيسة وحقوقهم، كما هو حال جميع أعضاء الكنيسة، هي الحياة في ملء مواهب النعمة الإلهيّة في وسط كنيستنا المقدّسة، والشهادة بالكلمة وبحياتهم للمسيح المخلّص ولإنجيله"
هذه الوثيقة استهلّت بعبارة "تعترف اللجنة". وهذا أمر لافت في تأكيده أنّ موضوع المشاركة لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه. غير أن العبارة التي وردت في خاتمتها والقائلة "أن ذلك لا يُشكّل حالياً مسألة مُلحّة في الكنيسة"، أنتجت ردوداً عدّة تُشدّد على أن المسألة مُلحّة جدّاً، أبرزها من البروفسور جان كرميرسي الذي قال:
"...إنّ موضع العلمانيّين في الكنيسة الأرثوذكسية المعاصرة يختلف عن الموضع الذي كان تعليم الكنيسة الأرثوذكسيّة يفرضه في زمن العهد الجديد وفي الكنيسة الأولى وحتّى نحو منتصف القرن الثالث. فبعد ذلك، بوشر بإهمالهم. وخسر العلمانيّون، عبر العصور، كثيراً من حقوقهم، كلّيّاً أو جزئيّاً، ولأسباب تاريخيّة متعدّدة، ولا سيّما تمثيلهم بواسطة الأمبراطور البيزنطيّ (وهذا ما يحدث، اليوم، جزئيّاً، عبر رؤساء الدول والحكومات عند انتخاب الأساقفة مثلاً...). ونتيجة لذلك، عاد العلمانيّون لا يمارسون هذه الحقوق، ولا يتمّون الواجب الذي ألقاه مؤسّس الكنيسة على عاتقهم....لقد حان الوقت، ليستعيد العلمانيّون حقوقهم وواجباتهم، ويمارسوا عضويّتهم الكلّيّة في جسد المسيح، في حياة كنيستهم".
وفي ردّ آخر، حذّر الكاتب نيقولا ماتسوكاس من المخاطر الناتجة من استمرار تغييب العلمانيّين عن حياة الكنيسة، التغييب الذي يؤذي الحياة الأسراريّة، ويجعل المؤمنين يتقبّلون، بطريقة سِحريّة، مواهب الروح القدس، ويزيد خطر سيطرة النزعة الأخلاقيّة والطهريّة التي هي نقيض الحياة الكنسيّة.
المشاركـة تعبيـر حتمـيّ عـن الكنيسـة كجماعـة مواهبيّـة:
من المسلّمات الأرثوذكسيّة أنّ الكنيسة هي جماعة مواهبيّة، مدعوّة إلى تجسيد الاتّحاد بالتنوّع، والمحافظة على التنوّع بالاتّحاد، على صورة الثالوث الأقدس. لذا، تستدعي الأمانة لهذا التعليم تكريس المشاركة في حياة الكنيسة اليوم، وتعزيزها وتعميقها لما يخدم اكتشاف المواهـب وتفتّحهـا وإنضاجهـا وتغذيتهـا بالخبرات، وإطلاقها في مجالَيْ الشهادة والخدمة.

2-القوانين التي رعت، ماضياً وحاضراً، المشاركة ومدى إنسجامهـا مـع التعليـم:
إنّ المشاركة تبقى أمراً نظريّاً، يلقى مداه، حقّاً وواقعاً، في الأطر التي تصدرها الكنيسة لتنظيم فعل المشاركة وآلياته، وذلك عبر القوانين والأنظمة الصادرة وفقاً للأصول. ولا بدّ، هنا، مـن التوقّـف لتأكيـد الثوابـت التاليـة:

"كلّكم راعٍ وكلّ راع مسؤول عن رعيّته: أنا مسؤول عنك وعنه، وأنت مسؤول عنّي وعنه، وهو مسؤول عنك وعنّي. هذا ما تعلّمه الأرثوذكسية وأمام هذه المبادئ تضعك الكنيسة كيّ ترى مدى فعاليتك في حقل المسيح" يُعلّم البطريرك أغناطيوس هزيم (1946).إن هذه المُشاركة في المسؤولية عن حياة الكنيسة التي يُدعى إليها جميع المؤمنين هي تعبيرٌ حيّ عن التزامهم بالمسيح ونتيجة لفهمهم طبيعة حياة الكنيسة الشركويّة. وتالياً، فإنّ حقّهم بالمشاركة لا يُستمدّ قانونيّاً فحسب، بل من لاهوت كنيستهم التي قد تعبّر قوانينها عنه أو ربّما لا تعبّر، أو ربّما تكرّس أطراً وقواعد تعجز عن مواكبة التعليم، وتعطّل مفاعيله وتحّده أحياناً. وهذا قد ينتج منه تشويهٌ في ممارسة الحياة الكنسيّة وإطفاء لمواهب الروح وتنكّرٌ له. من هنا، نحن مدعوّون إلى وعي أنّ المشاركة، إن تمسّكنا بها بأمانة، نكشف عملاً كنسيّاً مشعّاً وشاهدًا، وإن فرّطنا بها، نلبس الكنيسة وشاحاً فئويّاً وطبقيّاً لم ينسجه لها ربّها. وهذه مسؤوليّة تقع على عاتق المؤمنين جميعاً، ولا سيّما منهم الأساقفة الذين شأنهم الدائم أن يقتدوا بما علّمه قبريانوس القرطاجيّ.

أمّا أبرز القوانين الصادرة وتعديلاتها ابتداءً من منتصف القرن المنصرم، وهي:
-قانـون 1955
في منتصف القرن المنصرم، قام، في لبنان، مجموعة أرثوذكسيّين بتحرّكات عدّة ضاغطة من أجل تأطير الأرثوذكس طائفيّاً وصون حقوقهم والدفاع عنها بسبب تهميش تعرّضوا له... وما اعتبر طغيان الأساقفة في الإدارة وتفرّدهم في العمل من دون استمزاج رأي الكهنة أو العلمانيّين ذوي الاختصاص. وتوصّل هؤلاء إلى عقد مؤتمر في المقرّ البطريركيّ في دمشق في 18 و19 من تشرين الثاني العام الـ1955. وقد أعطى المؤتمر نفسه صفة تشريعيّة. فولد، في هذه الأجواء الضاغطة، القانون الأساس لبطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق ومجموعة قوانين تكمّله، هي قوانين الأديرة والأوقاف، الصندوق الملّيّ العامّ، والمجالس الكنسيّة. وكان هذا القانون أحد أسباب نشوء أزمات عدّة، في الكنيسة، سواء على صعيد المجمع، أو صعيد الأبرشيّات، حيث تحوّلت الانتخابات الملّيّة إلى مواجهات حادّة بين المرشّحين خلت من كلّ روح مسيحيّة بمبالغتها في محاكاة الانتخابات الزمنيّة التي تقوم على الدعاية وترويج لمرشّحين من دون غيرهم وتهميش كرامة الناس على حساب رعاية الضمير والخلق كريم، وذلك بإقرار أحد المتحمّسين لهذا القانون آنذاك.
وان كان طغيان العلمنة أمر دخيل على الكنيسة وطغيان سلطويّة إكيلريكيّة هو دخيل أيضاً، وجرح للعقيدة، فإنّ قانون 1955 تميّز بطغيان علمانيّ وتشويه للصلاحيات المجمعيّة وفق التقليد الشريف. ونذكر، هنا، أن حركة الشبيبة الأرثوذكسية قد تقدّمت في حينه بمذكّرة (مُرفقة) تتضمّن ملاحظات عديدة حول هذا القانون لم يؤخذ بها.

-قانـون 1973 وتعديلاتـه
بعد تعثّر قانون 1955 والجدل الذي رافقه بعد إقراره، أقرّ المجمع المقدّس، في جلسته المنعقدة بتاريخ 28/7/1972، نظام المجالس في الكرسيّ الأنطاكيّ، الذي أستهلّ موادّه بتكريس مبدأ اشتراك المؤمنين في حياة كنيستهم عبر اشتراكهم في حياة رعيّتهم وأبرشيّتهم. ونصّ هذا القانون على وجود هيئات دائمة، تتألّف من كهنة وعلمانيّين، تعاون راعي الأبرشيّة في أعمال أبرشيّته ونشاطاتها، وهي: مجلس الرعيّة، مؤتمر الأبرشيّة، ومجلس الأبرشيّة المحلّيّ. كما تضمّن النظام الجديد، انطلاقاً من مفهوم الرعيّة، قفزات كبرى في مفهوم المشاركة والعمل الرعائيّ. وأعطى مجلس الرعيّة صفة هيئة دائمة تشارك الكاهن. غير أنّ تعديل العام الـ1993 أبدل لفظة "تشارك" بـ"تعاون"، فقزّم المشاركة بإعلائه تراتبيّة بين مؤمنين، يعملون برئاسة الكاهن، وآلية اتّخاذ القرارات المتعلّقة بالتربية الكنسيّة وتعزيز الحياة الروحيّة وإنماء موارد الرعيّة الماليّة. واشترط أن يكون العضو مؤمناً ممارساً غيوراً ومعروفاً بحسن السيرة. وهذا عينه الشرط الواجب في عضويّة مؤتمر الأبرشيّة والمجلس الملّيّ.
أمّا مؤتمر الأبرشيّة الذي يحدّد راعي الأبرشيّة عدد أعضائه، فيتألّف، حكماً، من مندوبين عن جميع الرعايا، ومن كهنة الأبرشيّة (على ألاّ يتعدّى عددهم ربع مجموع عدد الأعضاء)، ويعمل كهيئة للتنمية الشاملة في الأبرشيّة وتغذية الصندوق الملّيّ.
ومجلس الأبرشيّة الملّيّ هو هيئة تعاون راعي الأبرشيّة في أعماله، ومن ضمنها:
-الإشراف على المؤسّسات الملّيّة والموافقة على الهيئات التي تقوم بإدارة هذه المؤسّسات والمصادقة على أنظمتها، مع صلاحيّة التدقيق بكلّ تقصير أو تجاوز أو إهمال أو عدم احترام للقانـون، إذا قامـت بـه مؤسّسـة مـن المؤسّسات الملّيّة.
-مراقبة انتخابات الجمعيّات الملّيّة.
-توفير معيشة الإكليريكيّين والعاملين في مركز الأبرشيّة، والاتّفاق على التعليم الدينيّ وغيره من النشاطات الروحيّة.
-وضع موازنة الأبرشيّة والتدقيق في حسابات مجالس الرعايا.
-الموافقة علـى عمليّات بيع الأوقاف ورهنها(...).
ألغى نظام 1973 المجلس الملّيّ العامّ. وأعطى البطريرك صلاحيّة الدعوة، عند الاقتضاء، إلى مؤتمر أرثوذكسيّ عامّ، تتمثّل فيه الأبرشيّات، وتكون غايته تنسيق الأعمال في الكرسيّ وتوثيق التعاون بين الأبرشيّات والتخطيط لتنمية الطاقات الأرثوذكسيّة وللمؤتمرات، ويصدر توصياته إلى المجمع المقدّس. على أن يشارك مطران كلّ أبرشيّة يرافقه كاهن يختاره وثلاثة علمانيّين ينتخبهم مجلس الأبرشيّة الملّيّ.

على المستوى النظريّ، شكّل نظام 1973 نقطة تحوّل إلى الإمام. وعزّز رجاء أبناء الكنيسة الغيارى بغدٍ أفضل. لكنّ النظام ذاته حجب عن المؤمنين حقّ المشاركة في عمليّة ترشيح مطارنتهم، حيث حصر نظام بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق الصادر أيضاً في 23/7/1973، حقّ ترشيح البطريرك والمطارنة والأساقفة بالمجمع المقدّس (المادّة الـ11). ولقد جرى تلطيف هذه الحصريّة في المادّة الـ67 من النظام الداخليّ للكرسيّ الأنطاكي الصادر عن المجمع المقّدس بتاريخ 7 نيسان 1983، حيث ورد فيها:
يدعو المعتمد البطريركيّ مؤتمر الأبرشيّة إلى الانعقاد في مدّة لا تتجاوز الـ40 يوماً من تاريخ شغور الأبرشيّة لاختيار ستّة من الذين وردت أسماؤهم على لائحة الأهليّة المجمعيّة، ويبلّغ البطريرك النتيجة على الفور. وتؤكّد المادّة تولّي المجمع المقدّس عمليّات الاختيار والترشيح والانتخاب، إذا لم يكن في الأبرشيّة مؤتمر، أو تعذّر اجتماعه، أو كانت سلامة الأبرشيّة تستدعي ذلك.

3-واقـع المشاركـة مـا بيـن نظـام 1955 ونظـام 1973
-تميز نظام 1955 بعرض مبدأ المشاركة وفق أسس مستجدّة على التراث الأرثوذكسيّ، فمنح البطريرك سلطات وصلاحيّات أوسع على حساب سلطة المطارنة، وأوجد سلطة علمانيّة على حساب سلطة المجمع المقدّس. وكان غزيراً في إيراد الصلاحيّات التفصيليّة التي ترعى آليّة انتخاب البطريرك والمطارنة وتشكيل اللجان لمتابعة قضايا مصالح الطائفة، من دون رؤية نهضويّة، وأغفل أيّ دور للرعيّة، وأيّ تطلّع لإصلاح حقيقيّ بالمعنى الروحيّ، وتجاهل ضرورة التزام العضو بحياة الكنيسة والممارسة الإيمانيّة...

-تميّز نظام 1973 بآفاق رحبة عبر نصوص نوعيّة حول المشاركة سواء في الرعيّة أو الأبرشيّة، وحثَّ على بلوغ مرجوّات كبيرة تعتمد على حسّ الأمانة للنهضة لدى الرعاة والعلمانيّين، وابتعد عن التحديدات القانونيّة والصلاحيّات التفصيليّة بإقراره تكريس مبدأ المشاركة، وشدّد على التفاهم والتعاون للقيام بالتربية الكنسيّة وإنماء الحياة الروحيّة، وكلّف مؤتمر الأبرشيّة العمل كهيئة للتنمية الشاملة في الأبرشيّة. وتضمّن هذا النظام، كما بيّنا أعلاه، تشديداً على أن يكون العضو، في أيّ هيئة، مؤمناً ممارساً غيوراً ومعروفاً بحسن السيرة، مساوياً منح العضويّة بين المرأة والرجل.

-غير أنّ حجب نظام 1973 حقّ العلمانيّين والكهنة بترشيح السيّد البطريرك والسادة المطارنة وانتخابهم، كما مع نظام 1955، شكّل فراغاً كبيراً على هذا الصعيد، ووجّه ضربة قاسية إلى مبدأ المشاركة التي سعى إلى احلاله.
القسـم الثانـي:
أ- مـدى المشاركـة علـى ضـوء الأنظمـة المعمـول بهـا:
 إنّ نظام 1973، بعد نحو 37 سنة، لم يطبَّق على النحو المرجوّ منه إطلاقاً، ولم يحقّق دوره كأداة تستنهض المشاركة الفعليّة بين أعضاء الكنيسة كافّة، ولم يختزن الخبرات المتوقّعة. وذلك لأسباب عديدة، منها:
إن هذا النظام، وإن شكّل إقراره تحدّياً كبيراً، وكسباً لموقع متقدّم في بنية كنسيّة، غُيّب عنها فعل المشاركة قروناً عدّة، إلاّ أنّ التحدّي الأكبر كان في مواكبته الخطوات الضروريّة المطلوبة لنشر الوعي المتعلّق حوله، وجعله مادّة توعية في حياة المؤمنين، وليس نصّاً مكتوباً يتضمن، بحدّ ذاته، الحلول والمعجزات.
لكنّ عمليّة المواكبة والاستنهاض لاقت تراخياً عند العلمانيّين ومعظم الرعاة. ولم تترجم، عبر 37 سنة، فكرة المشاركة بآليّات ومؤسّسات. وعُطّل، بنسبة كبيرة جدّاً، شرط الالتزام الإيمانيّ. والأكثريّة الساحقة من الأبرشيّات لم تعتمد تكملة هيكلية المجالس، فغابت هيئة مؤتمر الأبرشيّة، وكذلك المجلس الملّيّ. وإذا شكّل نشوء الحرب اللبنانيّة سبباً لدى بعض الأبرشيّات، فإنّ عوامل أخرى شكلّت سبباً للعرقلة، أو كانت ذريعة فضلى لعدم احترام النصّ.
باختصار، إنّ نظام 1973، الذي شكّل بداءة تحوّل إلى الأمام، أثبت تعاقب الأيّام أنّ الرعاة، الذين أقرّوا النظام وعدّلوه مراراً من دون رجوعهم إلى أحد، لم يحرصوا هم على تنفيذه بأمانة. وما يقال عن الرعاة، ينسحب على باقي المؤمنين، ولا يُستثنى النهضويّون، ولا سيّما الحركيّون، منهم.فهؤلاء، أيضاً، لم يبذلوا جهداً كافياً لجعله مادّة انتقال نحو كنيسة الغد، كما عبّرت بعض أقلامهم ولا سيّما ما كتبه الأخ كوستي بندلي حول هذا الموضوع بعنوان "مجالس الرعايا وبعض مُتطلّبات النهضة الأنطاكية" (مُرفق(

ب- نمـاذج المشاركـة حاليّـاً
علـى مستـوى المجالـس
على الرغم من تشكيل ما يسمّى بمجالس الرعايا في أغلب الرعايا، يمكننا الجزم أنّ معظم أعضائها لم يطّلعوا على نصّ النظام الذي يحدّد عملهم. وأمّا اختيارهم، فقد قام على عدم مراعاة المادّة السادسة. ويغيب عن غالبيتهم العظمى هاجس الاهتمام بالتربية الدينيّة والنشاطات الروحيّة. فالثابت أنّ معظم هذه المجالس تعمل كلجنة وقف باسم مجلس الرعيّة، وهي، تالياً، غريبة عن الرؤية التي أقرّها نظام 1973.
كما تتعطّل، عمليّاً، المادّة الأولى من النظام، التي تنصّ على مشاركة المؤمنين في حياة رعيّتهم وأبرشيّتهم، وتغيب هيئة مؤتمر الأبرشيّة عن الغالبية الساحقة من الأبرشيّات. وتتعطّل، تاليًا، المادّة الـ67 من النظام الأساس التي تولي مؤتمر الأبرشيّة اختيار ستّة مرشّحين للسدّة الأسقفيّة، في حال شغرت أبرشيّتهم. وأيضاً، يتعذّر تشكيل مجلس الأبرشيّة الملّيّ، لكون المؤتمر هو الهيئـة الناخبـة لهـذا المجلـس.
وفي كلّ حال، تغيب التنمية الشاملة، لأنّ المؤتمر يعمل كهيئة للتنميـة الشاملـة فـي الأبرشيّـة، ولأنّ النظام أناط بالمجلس الملّيّ صلاحيّة معاونة راعي الأبرشيّة في الإشراف على المؤسّسات الملّيّة (المادّة الـ27) التي يدخل في مفهومها الجمعيّات ومكاتب الأوقاف والمدارس (المادّة الـ31). وبتعبير آخر، تشمل جميع المؤسّسات، التي تملكها الكنيسة، من تربويّة وتعليميّة وصحّيّة واستشفائيّة ووقفيّة وغيرها. وإذا انفرطت الحلقات التي ترعى المشاركة في الكنيسة وتفكّكت سلاسلها وآليّاتها، فلا نستغربّن غياب الرؤية والتخطيط والتفعيل وافتقاد أدنى المقوّمات لمواجهة المتغيّرات المحيطة وتحدّيات العصر المتعدّدة.

أشكـال حتميّـة للمشاركـة
يسلّم التراث بأنّ الشعب هو الذي يختار رعاته من مطارنة وكهنة. أمّا في الواقع الأنطاكيّ، فقد جرت العادة على أن يتولّى المجمع المقدّس عمليّة الترشيح والانتخاب. حتّى عمليّة الترشيح الفضفاضة التي يقوم بها مؤتمر الأبرشيّة بحسب المادّة /68/ (نظام داخليّ)، يعطّلها غياب المؤتمر عن معظم الأبرشيّات، وتالياً صلاحيّة المجمع الواسعة في حصر الترشيح والانتخاب به، وإن في وجود المؤتمر. والمفارقة أنّ المجمع قد استساغ هذا الحصر واستمرّ في تكريسه، ولم يضع أيّ خطة أو آليّة أو رؤية أو تحرّك، للانتقال إلى تطبيق قاعدة الاختيار الجوهريّة بإبراز دور الشعب في اختياره قادته.

حـول المـوارد الماليـّة وتعزيزهـا وإطـلاق المؤسّسـات والمشاريـع
تغيب الرؤى والمشاريع والمناقشات اللازمة من أجل وضع أيّ تصوّر عصريّ لعمليّة الأوقاف أو تأهيلها أو تطويرها. وتغيب معها أيّة مشاريع تأخذ في الاعتبار حاجات الشعب الأرثوذكسيّ إلى استثمارات تربويّة واجتماعيّة وصحّيّة. هذا الواقع لا يمنع الاعتراف بوجود مشاريع نوعيّة هنا وهناك، وعمليّات بناء، وترميمات. إلاّ أنها تجري، عموماً، في غياب أيّ خطّة متكاملة على مستوى الأبرشيّة، وتالياً مستوى الكرسيّ الأنطاكيّ. وعمليّة المشاركة، إن وجدت، لا تتعدّى إبداء الرأي والمشورة للمطران.
وعلى أنّ المجمع المقدّس قرّر إنشاء ما يسمّى بالمجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ ووضع نظامه الداخليّ في 26/11/1981، إلاّ أنّنا لم نعثر على أيّ إنجاز أو خطّة أو تصوّر لهذا المجلس، الذي لا صلاحيّات تقريريّة له.
باختصار، إنّ المشاركة المرجوّة، على مستوى إدارة الأوقاف وزيادة الموارد الماليّة ووضع الخطط اللازمة لها وتقدير حاجات المؤمنين في كلّ أبرشيّة والخروج من المحدوديّة المحلّيّة لإدارة الوقف في الرعيّة، أمر شبه غائب عن حياة الكنيسة الأنطاكيّة اليوم

القسـم الثالـث:
الاقتراحـــات:
تستدعي الأمانة للعمل الجماعيّ في الكنيسة إطلاق ورشة إنقاذ يتابعها أهلها، ويقوّمونها دوريّاً.
1-دعوة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أعضاءها وسائر النهضويّين في الكنيسة، مجدّداً، إلى تفعيل نظام المجالس في الرعايا، وذلك وفقاً للأسس والمنطلقات والمسلّمات التي نصّ عليها، والعمل المنظّم من أجل إطلاق الهيئات الدائمة في الأبرشيّة، مع ما يتطلب ذلك من وضع برنامج إعلامي إرشاديّ تعليميّ.
2- تشكيل هيئة متابعة من الطاقات الأرثوذكسية تتولّى دراسة موضوع المشاركة وتفعيله ومُتابعة تنفيذ نظام المجالس من خلال:
-إطلاق مشروع تعليميّ وإعلاميّ يوضح للشعب المؤمن مفهوم المشاركة التراثيّ، والحثّ عليه، ومتابعة السادة الأساقفة من أجل تحقيق القدر الأكبر منه، ورصد الخروقات اللاحقة به بغية معالجتها، ووضع الأنظمة الحاليّة تحت الدرس المستمرّ واقتراح التعديلات لها، ووضع خطط خمسيّة أو عشريّة، إن اقتضى الأمر، والاتّصال بالمؤمنين الراغبين منهم، وعقد ندوات حواريّة لبلورة كلّ ما من شأنه تحقيق مبدأ المشاركة في الكنيسة.
-العمل لتعديل النظام واستكماله لجهة إشراك تدريجيّ للمؤمنين في عمليّـة ترشيـح رعاتهـم واختيارهم وتثبيت موضوع إنعقاد المؤتمر الأرثوذكسيّ العام.
-العمل من أجل تفعيل المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ المذكور، وتكليف من يلزم من المؤمنين المتخصّصين وضع المشاريع المناسبة لاستثمار الأوقاف وتفعيلها وفق آليّات عصريّة، بعد تشكيل لجنة في كلّ أبرشيّة، إن أمكن. على أن يؤكَّد، دائماً، أنّ المال هو، خصوصاً، لخدمة الفقراء ونشر الكلمة الإلهيّة.
-إنعقاد هذا اللقاء، بدعوة من هيئة المُتابعة، بعد ستة أشهر من تاريخه للاطّلاع على الخطوات العملية التي أنجزت ووضع الخطوات اللاحقة لمُتابعة الموضوع بشكل دائم.
-توجيه رسالة إلى صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس الرابع والسادة المطارنة أعضاء المجمع المقدّس لاعلامهم بإنعقاد هذا اللقاء ونتائجـه.

خاتمـة:
لا نعتقدنّ أنّ تحقيق مشاركة المؤمنين في حياة كنيستهم أمر يسهل حصوله بمجرد المناداة به أو إقرار الأوراق المتعلّقة به في المؤتمرات، بل إنّما يتحقّق، تدريجيّاً، متى أصبح جهاداً نهضويّاً، تحمله أجيال المؤمنين على مدى سنيهم بروح المحبّة والقوّة والنصح.
13 تشرين الثاني 2010

No comments:

Post a Comment