أيها الأخوة والأخوات الأحباء
اللقاءُ الرعائي الأرثوذكسي الذي يلتئمُ اليوم في مؤتمره الثالث، نشأ سنة
2010 بمبادرةٍ مشكورة من حركة الشبيبة الأرثوذكسية التي نتقدم منها بالشكر الجزيل
لخطوتها الطيِّبة هذه، وخاصة من أمينها العام السابق الأخ الأستاذ رينيه أنطون
الذي شملها يومَها باهتمامه الخاص، وأبدى إصراراً كبيراً على نجاح هذا اللقاء.
في تلك السنة، تأسس اللقاء الرعائي الأرثوذكسي على هامش أعمال مؤتمر حركة
الشبيبة الأرثوذكسية الثاني والأربعين، فضمّ إلى جانب الحركة العديدَ من أبناء شعب
الله الأنطاكي الأرثوذكسي، الغيارى على شأن الكنيسة، فكان انطلاقةً جديدة، جامعة،
لهذا الشعب التائق إلى رعايةٍ متأصلةٍ في روحيتها، متقنةٍ في أدائها، فاعلةٍ في
نتائجها. التقينا مرةً ثانية في آذار 2011، واستمرينا في العمل والإعداد لهذا
المؤتمر الثالث المنعقد اليوم، عبر لجنة متابعة مؤلفةٍ من بعض أعضاء اللقاء الذين
تسمح لهم ظروفهم وأوقاتهم التفرغ بعض الشيء لهذه الخدمة، ويجيش في نفوسهم حب
العطاء. تابعت هذه اللجنة بإنتظام أعمالها إلى اليوم، فأعدّت هذا المؤتمر، راجية
أن يكون نجاحاً جديداً في حقل الرب، وفرصة لتحقيق الأهداف التي نشأ اللقاء لأجلها.
وكان من نتائج عمل لقائنا الرعائي أنْ حُدّدت الإشكالياتُ التي تعتري حياتنا
الكنسِيَّة والهمومُ التي يشعر بها المؤمنون، ولقد تبيَّن لنا بأن المشكلة
الرئيسية هي في ضعف الرعاية وافتقاد أطر اللقاء بين الأكليريكيين والشعب
الأرثوذكسي، وفي هزالة التواصل بين الأبرشيات والمؤسسات الكنسية. هذه الأشكالية
الرئيسية، بالإضافةِ إلى ممارسات شاذةٍ غريبة عن إيماننا المسيحي وتعليمنا القويم،
أدّت بكثيرين للإبتعادِ عن حياة الكنيسة، وأدَّت بالمؤسسة الكنسيِّة إلى غربة
متنامية عن حياة المجتمع بكل أبعادها. نحن نعتقدُ بأن كلُّ إنسان ينفصل عن الكنيسة
بالقول أو بالفعل، أو يزدري بدورها أو يدعو لتهميشها، هو دليلُ فشل الرعاية الكنسية
في احتضان أبناء الله ودليلُ افتقاد المؤسسة الكنيسة إلى روح الشراكة والرعاية
والانفتاح.
وبالفعل، فإن لقاءنا وضع إصبعه على جرح كنيستنا المعاصر، هذا الجرح الذي
يدميها باستمرار ويوهنُ مؤسستها في هذا العالم، ألا وهوَ ضعف الرعاية. ومن تشخيص
هذا الداء، تبنىّ لقاؤنا اسمه الحالي وهو اللقاء الرعائي الأرثوذكسي، ووجدَ بأن من
أبرز أسباب هذا الضعف الرعائي الحالة الهرمية المسيطرة على علاقة أبناء الكنيسة برُعاتها،
حيث تبدو الكنيسة وكأنها طبقاتٌ من البشر، بعضها عالمٌ ومعلمٌ متربعٌ في القمة،
وبعضها الآخر جاهلٌ وناقص المواهب والقدرات يترنح وراء قمة الهرم. هذه الطبقية
الغريبة عن روحية الكنيسة كما عرفها الرسل والآباء أدّت إلى تهميش المواهب الجياشة
وتجريد الكنيسة من بُعدها الشركوي، فتحوّلت الشراكة إلى طاعة عمياء والسلطة إلى
قيودٍ مكبلةٍ للمؤمنين.
إن هذا الوضع المؤسف ليس من روح الكنيسة وصُلبها. فهي في تاريخها الطويل لم
تقلْ بالهرمية ولم تدع إلى طاعة سلطوية عمياء، بل هي اعترفت لكل أبنائها بكهنوتهم
الملوكي، ودعت الجميع للإعتراف والاستفادة بمحبة من مواهب بعضهم البعض. فوضعت
قوانين كنسية تحاول قدر المستطاع تجسيدَ هذه الروح ونقل هذه الحال الشركوية
المقدسة إلى واقع ملموس. وفي إطار هذا التقليد الكنسي، حددت المجامعُ الأنطاكية
المتلاحقة قوانينَ إدارية تنظم حياة الكنيسة، وكان آخرها قانون 1973 الذي أصدره
المجمع المقدس، ثم عاد وعدَّله سنة 1993 ونشره في الجريدة الرسمية اللبنانية.
لكن المستغرب هو أن هذا القانون لم يبصرْ النور على أرض الواقع فبقيت
حياتنا الكنسية خاضعة للروح الهرمية التسلطية التي شكينا منها طويلاً، حيث يتحكم
الأكليريكيون بسلطة رعائيةٍ مطلقة ويُستبعد الشعب استبعاداً كاملاً عن الشراكة في
حياة الكنيسة وإدارتها.
من هذا الواقع المؤلم، انطلق اللقاء الرعائي محدِداً الداء وداعياً إلى
معالجته بالتعاون مع الرئاسة الروحية وكافة الفعاليات الأرثوذكسية في سائر أبرشيات
الكرسي الأنطاكي المقدس. فأنجز بعض الخطوات وحقق بعض التقدم في هذا المسار الطويل.
ويأتي لقاؤنا اليوم، هذا اللقاء الثالث، لمتابعة هذه الخطى، وتبادل الرأي في
مستلزمات المرحلة القادمة، وإقرار الخطوات القادمة الضرورية لفرض هذه الشراكة
العامة، والوصول إلى مؤتمر أرثوذكسي أنطاكي عام يجمع كل المواهب والطاقات ويؤسس
لعصر جديد من النهضة في مشرقنا العريق، حيث دعي المؤمنون مسيحيين أولاً.
ولنا في كلمات صاحب الغبطة، الواردة في رسالته الرعائية الصادرة مؤخراً،
والمنشورة في مناسبة قدّاسِه الإحتفالي الأوَّل في بيروت، الأملُ الفياضُ بتحقُّق
هذا التبدُّل الذي طال إنتظاره، إذ قال في رسالته: " لن نوفر جهداً حتى يشعر كل مؤمن أن الكنيسة جاهزة للإستفادة من علمه، ومن
خبرته، ومن طاقاته الإنسانية في حياة الرعية، كما في المجال الكنسي العام. مهمتنا،
في عالم اليوم، أن نزيل الغربة عند المؤمن بين إنتمائه الكنسي وإنتمائه الى عالم
هو مدعو لتقديسه. فالشعب المؤمن، ككهنوت ملوكي، مدعو الى هذا العمل الإلهي الذي
يبعد العالم عن الدهرنة، ويقربه الى الله. لذلك سنعمل لإستنهاض طاقات الأشخاص
والمؤسسات، من أجل إبراز التجليات التي سمح بها الله، أكان ذلك في مجال اللاهوت،
أو الفكر، أو العلم، أو الأدب، أو الفن وغيرها. "
وإذ ينطلق الآن مؤتمرنا الثالث بالزخم الذي نرجوه، نشكر لكم فرداً فرداً
اهتمامكم بهذا الشأن الكنسي الهام ومشاركتكم في هذا الاجتماع، ونخص بالذكر الأخ
الأستاذ إبراهيم رزق امين عام حركة الشبيبة الأرثوذكسية الحالي لمساهمته القيمة
وجهده الدؤوب في دعم لجنة المتابعة وإعداد هذا المؤتمر، ونبتهل إلى الهنا المحبِّ
البشر أن ينعمَ علينا بروحه القدوس لينيرَ مسيرتَنا بصوابٍ إلى ملءِ قامته ويسدِّدَ
خطانا في سبيل خير عروسِه الكنيسة.
الدكتور نجيب جهشان
02-03-2013
No comments:
Post a Comment